أولا كلنا نهنئكم جميعا بعقد هذا المؤتمر وهذه الندوة العالمية ، وندعو لكم دعوة خالصة بنجاح هذه الدورة ، وهذا المؤتمر ! كذلك طبعا نحن نرحب بجميع الإخوة المشاركين ، سواء كانوا من خارج أندونيسيا من السعودية من مصر من اليمن ومن دول إسلامية أخرى كماليزيا وتركيا ، ولا يفوتنا كذلك طبعا تقدير الإخوة أعضاء اتحاد مدرسي اللغة العربية ، الذين حضروا العام وشرفونا بعقد هذه الندوة ، وسعوا من أجل تحقيق نجاحها .
وفي الواقع ليس علي أن أقوم في هذه المنصة ، وليس لي الحق في إلقاء هذه الكلمات ، لأنني أعرف أن أمامي أساتذة دكاترة متخصصين في اللغة العربية تعليما وبحثا وتعميقا وتعمُّقًا كذلك ، وكما يقال في الفقه الإسلامي قاعدة إسلامية معروفة معتبرة " لا يُسْتَفْتى ومالك في المدينة " ! وكلكم - ما شاء الله ! - أئمة وملوك ! وأغنياء عن التعريف ، وأغنياء عن مثل هذه النصائح التي سألقيها أمامكم ؛ فـ" إذا وُجِدَ الماء في الواقع بَطَلَ التيمم " ! - ولكن أستاذنا الفاضل رئيس الندوة واتحاد مدرسي اللغة العربية ، الأستاذ الدكتور محمد لطفي زهدي ، شَرَّفَني بالمشاركة في هذه الندوة المباركة ، وهو أخ عزيز كنت معه منذ أن كنت أدرس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وإلى الآن بيني وبينه علاقة قوية ؛ فليس لي بد من أن أقبل تكليفه لي وتشريفه في الوقت نفسه ، بالمثول أمامكم من أجل إلقاء هذه الكلمة حول اللغة العربية وأهميتها ، ولا سيما في صياغة الفكر الإسلامي المعتدل ، والفكر الإسلامي الوسطي .
لماذا هذا الموضوع بالذات ؟
كلنا نعلم أن اللغة العربية هي لغة القرآن ، والآيات القرآنية هي التي أخبرتنا بأن هذه الأمة " أُمَّةً واحِدَةً " ، و" أُمَّةً وَسَطًا " ، فإذا كانت اللغة العربية وعلاقتها بالقرآن الكريم ، أعطت صيغة معينة لهذه الأمة ، لها سمة بهذه الأمة ، فإن السمة الأساسية هي كونها وسطا أو وسطية ، وهذه الوسطية في الواقع كما أن لها علاقة باللغة ، في الواقع في نظري تتعلق كذلك بناحية التخيل الذي هو تخيل إسلامي وسطي ، وتتعلق كذلك بالحياة الإنسانية الوسطية ، لأن مصطلح الوسط في الواقع ليس مصطلحا يمكن أن يقبل على أنه مصطلح ديني إسلامي فقط ، ولكن كذلك يمكن أن يفهم على أنه مصطلح إنساني عالمي مقبول لدى جميع الإنسانية .
هناك مقولة في الفكر الإسلامي معروفة لدى جميع الدارسين للفكر الإسلامي ، وهي أن العادة مُحَكَّمَةٌ أو مُعْتَبَرَةٌ ، أو كذلك ما يتعلق بقدسية العُرْف ، وكذلك ما يتعلق بقدسية الاجتماع ، فهذه القواعد كلها تنبئنا بشيء أساسي هنا ، وهو إمكانية اللقاء بين ناس وناس آخرين ، بين أمة وأمة أخرى ، بين منتسبين ومنتسبين آخرين ، بين مسلمين ومسلمين آخرين .
وعلى ذلك فنحن نعيش الآن في العالم ، حيث إن هناك ترويجا للضغط على الوسطية ، للضغط على الذين يعيشون بهذا الدين ، هناك ما يسمى بحركة الإرهاب ، هناك ما يسمى بحركة الانغلاق وعدم الاتصال بالآخرين ، وهذه التهم في الواقع تهم مُلَفَّقَة ، وليس لها رصيد من الصحة في الواقع الحقيقي إذا قرنت بما هو المطلوب قرآنا وإنسانا ، ولكن هذا هو الوضع الذي نعيشه الآن ، والذي يلقاه الإسلام ، وكلنا نذوق من مرارة هذه التهم .
ونحن كلنا أمة إنسانية أمة إسلامية ، كُرِّمْنا بهذه اللغة العربية ، كُرِّمْنا كذلك بهذا الوحي القرآني المحمدي ، وإذا ظهر ذلك فإن الله - عز وجل ! - قد سهل لنا طريق العقيدة ، من أجل تفهم القرآن ، واللغة العربية ، من أجل تطبيقها في مجالات الحياة المتعددة ؛ وعلى ذلك أنا أرى أننا إذا أردنا أن نحيا بالفكر الإسلامي الوسطي ، أو بالفكر الإنساني الوسطي ، فاللغة العربية هي من الإبواب الرئيسية التي عن طريقها ندخل إلى تفهم حقيقة الحياة وحقيقة الوسطية ، ولا سيما إذا عدنا نحن إلى القرآن ؛ فسنجد أن القرآن هو ذلك الكتاب الذي ليس كتابا وَحْييًّا آخِرًا ، آخر ما نُزِّلَ على رسل الله - عز ، وجل ! - فقط ، ولكنه مع ذلك كتاب عربي مبين ، يأتي لنا بكثير من الأوصاف الأساسية ، من أجل الحياة السعيدة بين أمة وأمة ، وبين الأديان الثلاثة .
وإذا جئنا نحن إلى أندونيسيا فسنجد أنها ليست هي هذه الدولة التي معظم سكانها مسلمون فقط ، وليست كذلك هي هذه الدولة التي مورِسَتْ فيها كثير من المفاهيم من أجل فهم القرآن ، ومن أجل فهم التدين ، ومن أجل فهم الحياة كذلك – بل سنجد أن هناك كثيرا من المذاهب ومن المدارس ومن الاتجاهات ، يحاول أصحابها أن يفرضوا علينا فهمهم الخاص عن طريق تفكيرهم الخاص الذي أقحموه على الآيات القرآنية .
من آخر ما سمعنا أن هناك بعض النشطاء في بعض المذاهب الفكرية في أندونيسيا - وقد تكون هذه المذاهب معروفة ومنتشرة خارج أندونيسيا - قد قالوا بأن القرآن ليس وحيا إلهيا ، إنما هو عمل جماعي يشترك فيه كل من الله - عز ، وجل ! - وجبريل - عليه السلام ! - ومحمد - صلى الله عليه ، سلم ! - ويستدلون على هذه المقولة بالآية القرآنية " إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَه لَحافِظونَ " !
قال هذا المفكر الأندونيسي : إن النص القرآني يأتي بهذه الصيغة " إِنّا نَحْنُ " ، " إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَه لَحافِظونَ " ، هذه الصيغ كلها هي جماعية ، هذا على قدر فهمه هو ، دليل قاطع بأن القرآن ليس عملا آحاديا ، وحيا من الله - عز ، وجل ! - نزل إلى رسوله - صلى الله عليه ، وسلم ! - بل عمل يشترك فيه كل مِنَ الله ، وجبريل ، ومحمد ، صلى الله عليه ، وسلم !
ماذا يريدون أن يصلوا في النتيجة الأخيرة ؟
إنما جاؤوا بهذا الفهم القاصر ليقولوا إن هذا القرآن عمل إنساني ، ليس عملا مقدسا إلهيا ، وبما أن القرآن عمل إنساني يشترك فيه كثير من الناس بعد رسول الله ، يشترك فيه الصحابة يكتبون ويسجلون ، ثم بعد ذلك ينشر على جميع العالم الإسلامي مطبوعا ، ويشترك في هذه العملية عُمّالُ الطِّباعة المشتركون في العملية الطباعية ، ثم كلنا نحن نشترك في نَقْل هذا القرآن !
يريدون أن يصلوا إلى أنه إذا كان هذا القرآن عملا إنسانيا ، يعني ذلك أنه خاضع للزمان وللمكان ، خاضع كذلك للتفسير الزماني والمكاني ، خاضع كذلك لئلا يرجع إليه نهائيا ما دام عملا إنسانيا كغيره من الأعمال الإنسانية !
ولكن بفضل الله كما ثبت سلفيا ، لا يُمَكِّنُ الله - عز ، وجل ! - أية محاولة تحريفية ، من تحريف القرآن والتأويل ، بل يقيض الجهابذة الذين يَتَوَلَّوْنَ التصحيح ، ويوضحون المفهوم الصحيح تجاه هذه الأمور التي حاول الخبثاء الجهلاء المدعون تحريفها ، وحاولوا كذلك تَعْويجَها ، من أجل يصلوا إلى نتيجة هي في الواقع نتيجة غير صحيحة .
هناك مَنْ يُفَنِّدونَ في الواقع مثل هذه المقولة الخاطئة ؛ فَيَسير فَهْمُ القرآن في مَجْراه الصحيح .
ولكن كيف يعرف أن هذا الفهم صحيح أو غير صحيح ، وسطي أو غير وسطي ، إنساني أو غير إنساني ؟
في الواقع التعرف عن طريق اللغة العربية ، والعودة إلى الكتب المعتبرة في اللغة العربية ، هي خير معين وخير مساعد للوصول إلى مثل هذا الفهم الوسطي الصحيح .
ولكي لا يستطيع الناس والدارسون ، ولا يتمكنون من العودة إلى مثل هذه الأساليب الصحيحة المعتبرة ، والفهم الوسطي لمثل هذه الآيات القرآنية ، إلا عن طريق التعليم والتدريب ، ولا يمكن أن يكون هناك تعليم وتدريب صحيحان ، يمكن عن طريقهما الوصول إلى نتائج صحيحة - إلا عن طريق المدرسين والمعلمين ، الذين لهم هذه القدرات العملية على المستوى الرفيع ، من أجل التعلم الصحيح والتدريب البارع ، في توصيل هذه المفاهيم الصحيحة الوسطية إلى جميع الدارسين ، ثم إلى جميع المتعلمين ، ثم إلى جميع المسلمين ، ثم عن طريق الفهم الصحيح والعمل الصحيح من المسلمين ، تصل هذه المفاهيم القرآنية الصحيحة إلى جميع الناس .
ومن أجل مظاهر من سوء فهم القرآن ، متعلقة بالشكل غير الوسطي ، وبالشكل الإرهابي ، وبالشكل الانغلاقي - قال خصومنا إن التاريخ القرآني تاريخ تشددي ، تاريخ غير وسطي - واستدلوا على ذلك بأن ما جرى في المجتمع الإسلامي ، هو هذا الفهم المغلق ، هو هذا الفهم غير الوسطي .
إن من الصعب جدا علينا أن نقول لهم إن المقبول عالميا والمقبول منطقيا ، ليس ما فُهِمَ خطأ عن التدين ، عن الدين ، عن لقائنا ، عن العلم - بل المفهموم منطقيا وعالميا ، هو المفاهيم الأساسية المقبولة والمؤكدة والثابتة ، التي عن طريقها يعرف الناس الذي نريد نحن أن نفهمه . فإذا رجعنا إلى هذه القاعدة فسنجد أن حقيقة القرآن وعلاقتها بالعمل الإسلامي والعمل الإنساني ، ليست هي ذلك الفهم المعوج والخاطئ حول القرآن ، ولكن أن نعلم :
كيف يفهم رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - القرآن ؟
كيف يطبق القرآن ؟
كيف يعلم القرآن لأصحابه ؟
كيف عن طريقه نجح رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - في صياغة الفهم الإسلامي المعتدل ، الفكر الإسلامي الوسطي ، وتصحيح الأفكار المنحرفة ، الأفكار المتشددة ، الأفكار المتطرفة ؟
كيف صحح مفاهيم بعض أفكار الذين جاؤوا إلى بيوت أزواجه ، يسألون عن كيفية تعبد رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - وكانوا يطبقون مفاهيمهم الخاصة ؟
لما علم رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - ما حصل ، سرعان ما ذهب إليهم ، ودعاهم إلى تصحيح مفاهيمهم وتصحيح فكرهم ، وأقسم بالله : " أَما وَاللّهِ ، إِنّي لَأَخْشاكُمْ لِلّهِ وَأَتْقاكُمْ لَه ، لكِنّي أَصومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتي فَلَيْسَ مِنّي " !
عن مثل هذه الحادثة وعن مثل هذا الحديث ، أرانا رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - كيف يفهم الإسلام ، وكيف يفهم القرآن ، وكيف يعلم القرآن لأصحابه ، وعن طريقه يصحح بعض الأخطاء التي قد تحدث من الأفكار ومن الأفهام ، وكلنا نقتدي برسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - في فهمنا للقرآن ، وفي فهمنا للغة العربية ، وفي تعليمنا وتعلمنا للغة العربية ، وعن طريقه كذلك - إن شاء الله - سنستقبل النجاحات في تعميم هذه الأفكار الإسلامية المعتدلة ، ودحض تلك المحاولات الآثمة التي تأتي بالمفاهيم القرآنية غير الصحيحة ، التي عن طريقها تكون المفاهيم غير الوسطية ، وإن تكفل الله - عز ، وجل ! - بحفظ القرآن ، وبوسطية فهم القرآن ، وبالأمة الوسط ، كما هو محفوظ في القرآن الكريم .
وجزاكم الله خيرا كثيرا على هذه المناسبة الكريمة ، وجزاكم الله خيرا على مشاركتكم في هذه الندوة !
وإذا عقدت هذه الندوة هنا في مدينة باندونج ، وكلكم فيما أعتقد - ولا سيما الأساتذة المشاركون الذي جاؤوا من الدول العربية الإسلامية ، ومن الدول المجاورة - تعرفون أن هذه المدينة ، هي المدينة التي عقد فيها حفل توقيع مؤتمر باندونج ، وهو المؤتمر الذي عن طريقه نشأت إيحاءات استقلال الدول الإسلامية ، والدول العربية ، وغيرها - فأدعو الله - عز ، وجل ! - أن تظهر بعد هذه الندوة إيحاءات أخرى ، من أجل انتشار اللغة العربية وتعليمها وتثقيفها ، وكذلك انتشار الفهم الوسطي للإسلام والقرآن !
وجزاكم الله خيرا كثيرا ! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .
8 كلمة الدكتور عبد الرحمن بن جميل القصاص ، في بحثه عن " توظيف لغة القرآن الكريم في تعليم اللغة العريبة لغير الناطقين بها " ، الذي تمنيت أن يُفَصِّلَ تأثير لغة القرآن الكريم أصواتا وصيغا ومفردات وتراكيب ، في تعليم اللغة العربية أصواتا وصيغا ومفردات وتراكيب – وعجبت أن يُسَفِّهَ من كلام العرب الجاهليين شِعْرَه ونَثْرَه ، رفعا لمكانة القرآن الكريم وهي رفيعة ، وكلامهم نفسه من مراجع تفسير القرآن الكريم – واستنكرت أن يجعل أئمة العربية من غير العرب ، وإنما العربية اللسان والتفكير ؛ فمن تكلم العربية وفكر بها فهو عربي ، وأي عربي أحسن عروبة من الدكتور هدايت نور وحيد !
9 كلمة فرقة الإنشاد الطلابية ، لطالبتين ، لا ريب في أنهما بتخصص اللغة العربية ، ولكنهما – ولله الحمد كله ! - تأخرتا عن موضعهما العجيب بعد الدعاء لعدم استعدادهما ! قعدتا على أرض المسرح ، وضربت إحداهما بعودين على آلة مسطحة ، مرصوصة القطع المعدنية المتفاوتة الأحجام ، شبيهة بالتي كنا نستعملها بمدرسة شجر الدر الابتدائية ، من مدينة بني سويف بصعيد مصر ، في موسيقا طابور الصباح وحصة الموسيقا ! – وغنت الأخرى بالأندونيسية غناء بطيئا خاصا ، ربما كان من المعاني الإسلامية !
10 كلمة الشاي والقهوة ، وقد أُخِّرَتْ إلى ما بعد نهاية الاحتفال ، وكانت بغرفة خلفية ، صُفَّتْ فيها المناضد عليها أنواع من الطعام الخفيف ، وخَزّان مياه سُخْنة ، وأكواب ، وأكياس شاي ، وليمون . وقد عرفت أن الأندونيسيين يبدلون الليمون من الشاي ، ويفضلون عليه كذلك الأعشاب المُقَوِّية !
بغرفة الشاي هذه لقيت الأستاذ الماليزي الدكتور صوفي بن مان الأمة ، الذي أطلعني سعيدا على أن اللغة العربية صارت مقررا إجباريا ببلاده ، وأنه كان ممن عملوا على ذلك بوزارة التعليم – والأستاذ الأندونيسي تولوس مصطفى ، رئيس فرع رابطة الدعاة الأندونيسيين بجوجا كارنا من ولاية جاوة ، الذي كان على علم واسع بمصر والمصريين وجامعة القاهرة وكلية دار العلوم ، فأنست له :
- ما ألطف اختياركم رمز اتحاد مدرسي اللغة العربية ( IMLA ) ؛ فنطقه دال بالعربية على " إِمْلى " ، مقصور " إِمْلاء " ، المصطلح العربي على ظواهر لغوية عربية مختلفة علما وتعليما !
- صحيح صحيح !
ثم حدثته عن إعجابي بالدكتور هدايت نور وحيد ، الذي حرصت على السلام عليه ، والدعاء له قبل أي أحد ، ثم رأيت الأندونيسيين يسرعون إليه ، ويقبلون يده ، وغيرهم يتهللون له ، ويعبرون عن إعجابهم به ؛ فأطلعني على مكانته الكبيرة بأندونيسيا والعالم الإسلامي كله :
- إنه رئيس مجلس الشورى ، إن بإمكانه أن يعزل الرئيس الأندونيسي ! ثم إنه نائب الدكتور يوسف القرضاوي باتحاد علماء المسلمين العالمي - ولكنني نفى لي هذه النيابة ، في أكتوبر من 2007م ، الدكتور وصفي عاشور ، أحد تلامذة الدكتور يوسف القرضاوي ! - ثم إنه مؤسس رابطة الدعاة الأندونيسيين التي أرأس أحد فروعها ، بل مؤسس كثير غيرها من الجمعيات والمؤسسات الإسلامية .
- عن طريقك إذن أحب أن أعرفه أكثر .
- لدينا مجلة الجامعة للدراسات الإسلامية ، بالعربية والإنجليزية ؛ فهل تشاركنا فيها ؟
- ولكن أبحاثي في علوم العربية وآدابها !
- لا بأس !
- إذن أرسل إليك بحثي لهذا المؤتمر !
- لا بأس ، أهو مجهز لنقله إلى فلاشي .
- هات فلاشك آتك به غدا وعليه البحث .
كنا نتكلم مبتهجين بحقيقة الأخوة التي بيننا على ترامي أبعاد المسافات ، ونأكل معا ، وأشرب أنا الشاي الأحمر ، ويشرب هو الليمون بالماء السُّخْن ؛ حتى اكتفينا ، وتركته على الوعد بالبحث على فلاشه .
وفي غرفة الشاي لقيت كذلك الأستاذ منذرا ، السوداني الفاضل ، معلم اللغة العربية ، المتزوج من باندونجية أول ما تزوج :
- سبحان الله ، كيف ائتلفتما !
( هِيَ شاميَّةٌ إِذا مَا اسْتَقَلَّتْ وَسُهَيْلٌ إِذا اسْتَقَلَّ يَماني ) !
- سبحان الله ! مُسْلِمان ، عَرَفَتْ من العربية ، وعَرَفْتُ من الأندونيسية ؛ فلم لا نأتلف !
- أنجبتَ منها ؟
- ثلاثة أبناء .
- وكيف وجدتها ؟
- خير زوج ، فالأندونيسيون طيبون .
- ولكن تقاليدكما مختلفة !
- كان الأمر أسهل منه في السودان .
كنت أكلمه ممتلئا عروبا وإسلاما ، مكتسيا تودده خالصا ؛ حتى استأذنته ، وخرجت ؛ فإذا مَعْرِضٌ قريب : كتب وأقراص وأشرطة ، في تعليم العربية والإسلام ، وملابس على وَفْقِ قِطَعِ زيِّهم الثلاث : العليا والوسطى والسفلى - فأقبلت أتفقد شيئا أشتريه لأسرتي ، فإذا منذر خلفي يبتسم قائلا :
- هي على أحجامهم ، غير مناسبة لأحجامنا !
- معقول !
- وأنا حين أشتري لأهلي بالسودان ، أبحث عن قطع بالحجم العائلي !
- فكيف أفعل ؟
- تذهب إلى سوق البلد .
- أهي قريبة ؟
- تركب لها مسافة قصيرة ، وتنبه السائق على اسم المكان فقط .
- وفي الإياب ؟
- هذا الإياب هو المشكلة ، لأنك لا تركب من المكان نفسه ، بل تمشي إلى مكان آخر .
- يا ربي !
- أستطيع أن أصحبك ، وبيتي قريب .
- أكرمك الله ! ولكن متى نذهب ؟
- وقتكم غدا مشحون حقا !
- إما أن نذهب بين الجلسات أو بعدها ؛ فسأرحل صباح السبت .
- انتبه إلى التاسعة مساء ، موعد إغلاق المحال !
- لا حيلة إلا أن أضيع بعض الجلسات ؛ فهي تملأ الوقت كله ، إلا وقت صلاة الجمعة ! لا بأس ، ألقاك غدا .
- ولابد أن تبكر إلى الحافلة التي ستقلك إلى مطار جاكرتا ؛ فلا تضمن أثر الزحام نهارا !
- أتحرك لها إذن في السابعة صباحا ؛ هذا أحسن .
- أندي ... ، أندي ... ، كيف حالك ؟
- الحمد لله !
- أسافر صباح السبت ؛ ينبغي أن أكون الثانية عشرة في مطار جاكرتا ، والحافلة التي زعمت أنها لا تأخذ من جاكرتا إلى باندونج ، غير ساعتين ، أخذت ليلا أربع ساعات ! والنهار أشد ازدحاما ؛ فكيف سيكون الأمر ؟
- تتحرك حوافل مطار جاكرتا من عند متجر باندونج الكبير ، كل ساعة ؛ فماذا ترى ؟
- ينبغي أن ندرك حافلة السابعة ؛ لا نعرف كيف سيكون الازدحام !
- سأنبه على محمد فؤاد ، أن يأتيك في الموعد - إن شاء الله - لينتقل بك إلى هناك .
- أحسنت ، بارك الله فيك ! ثم لدي مشكلة أخرى !
- خير ، إن شاء الله ؟
- لم أُطَمْئِنْ أسرتي بعد ؛ فهلا عثرت لي على من يصحبني إلى مكان أكلمهم منه !
- أستطيع أن أوصلك بدراجتي البخارية ، ولكن هذا المكان نفسه مركز اتصالات !
- انتظر قليلا حتى أرى لك .
ذهب أندي هادي بعدما اضطره كَرَمُ منذر ، ثم ناداني إلى مجموعة من لجنة المؤتمر ، فسلمت عليهم ، ثم أعطاني محمولا من محاميلهم :
- محمول مَنْ هذا ؟
- محمول اللجنة !
فشل الاعتماد على هذا المحمول ، فعثر على محمول آخر ظننته محموله :
- وهذا ؟
- كل محاميلنا ملك اللجنة !
ضحكنا أنا وهو واللجنة المتحلقة ، ثم ظهرت لنا مشكلة ضرورة فتح الخط الدولي – وليس عندنا مثل هذا النظام – فكلم التحويلة ، حتى عرف رقم الفتح ، ثم كلمت أبي وأمي ، فتبدد قلقهما ، ولم أكد أبدأ ؛ حتى اضطرب التواصل ، فاستقر ، فاضطرب ؛ فأحسست ألا حاجة بي ، ولا بهم ، ولا بأندي واللجنة - إلى أكثر من تَحيّات حَياتي !
- شكر الله لكم ! أندي ، بالله ، أرجو ألا يتأخر محمد فؤاد عن السابعة !
- إن شاء الله !
ذهبت إلى غرفتي ، وفتحت حاسوبي ، وصليت المغرب مع العشاء جمعا وقصرا ، ونسخت البحث إلى فلاش الأستاذ تولوس مصطفى ، ثم وصلت فلاشي المُسَجِّلَ لشحنه ، ثم ضبطت منبه محمولي لصلاة الفجر ، وفتشت في التلفاز عن شيء ، ثم مللت القنوات والإرسال ؛ فأغلقت كل شيء ، وأطفأت النور ، وتناومت حتى قمت لصلاة الفجر ، ثم تناومت حتى قمت للخروج .
تجهزت ، وذهبت للإفطار ، وانتحيت جهة مكاننا السابق ، ووجدت خبز الجمبري والأرز واللحم والسلطة ، فأصبت ما تَيَسَّر ، ثم سعيت إلى قصر تلكوم ، فلقيت في طريقي الأستاذ يسرينج سنوسي باسو ، من جامعة حسن الدين ، بولاية ماكاسار ، شابا فتيا ، وسيما قسيما ، مريح الملامح :
- السلام عليكم !
- وعليكم السلام !
مضينا معا ؛ حتى إذا قاربنا قصر تلكوم ، ولم أكن أحفظ المدخل ، أشرت له أستشيره :
- نميل ؟
- نميل إلى ، أم نميل على ؟
- بل نميل إلى !
دخلنا ، ولم أنتبه إلى تَوْزيع الجلسات على قصر تلكوم وعلى غرفة الشاي ؛ حتى أوشكت أن أفرغ من الجلسة الأولى ؛ فإذا مدير الجلسة التالية ، الذي عرفت منه أن جلستي بغرفة الشاي ، وهي أصغر من هذا المسرح طبعا - وأندي هادي ، الذي احتجت إليه ؛ فكلفه مدير الجلسة التالية أن يأخذني إلى جلستي ، فذهبنا ، ووجدنا السابقة عليها ، قائمة لم تنته بعد ، فعدت إلى حيث كنت ، وتَعَهَّدَ أندي أن ينبهني إذا انتهت .
استمعت في هذه الجلسة الأولى بقصر تلكوم ، إلى الدكتور عباس عبد الحليم ، يتكلم في " ملامح التفكير الأسلوبي في البلاغة العربية " ، وكان كلامه مألوفا - ثم إلى الدكتور زياد الزعبي ، يتكلم في " تأثير شعر الغزل العربي في الشعر الألماني في العصور الوسطى " ، وكان كلامه طريفا لطيفا - ثم إلى الدكتور عارف كرخي أبو خضيري ، يتكلم في " النصوص الأدبية في منهج الأدب العربي للطلاب غير العرب في المرحلة الجامعية : دراسة نظرية تمهيدية " ، وكان كلامه طريفا لطيفا - ثم إلى الدكتور حسن عبد المقصود ، يتكلم في " استخدام القصص الفكاهية في تعليم اللغة العربية لغير العرب " ، وكان كلامه مألوفا – ثم إلى الدكتور قرني عبد الحليم ، يتكلم في " قراءة نقدية في ديوان فلامنكو للشاعر عارف كرخي أبو خضيري " ، وكان كلامه في زميله دليلا مثيرا على ظهور فضل الدكتور عارف ، علما وفنا !
ثم ذهبت عن هذه الجلسة إلى جلستي ، لأجد شباب الأساتذة الذين اشتغلوا في رحلة الحافلة ذهابا وإيابا بالتعارف والمزاح والإحماض ، ظاهرين على الجلسة بمِراحِهم وجُرأتهم بمكانة بلادهم في نفوس الأندونيسيين ، يستطردون إلى أفكار غير متمكنة في مسائل المؤتمر !
اشتملت الجلسة على ثمانية متحدثين ، ولم تتسع منصتها إلا لأربعة منهم ؛ فكانوا يتتابعون إليها واحدا واحدا !
نبه أندي هادي الدكتور أحمد مرادي ، الأستاذ بجامعة جاكرا الحكومية ، مدير الجلسة ، على مشاركتي ، فرحب بي ، فصعدت ، وقعدت صامتا متلددا ، بجوار الأستاذ الماليزي أبو سعيد محمد عبد المجيد ، يتكلم في " أساليب تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها " ، وكان قد أوجز من بحثه ، لوحات ، على برنامج البوربوينت الذي جهزت عليه مثله ، ثم ذهب يقرأ ما في كل لوحة دون نقص ولا زيادة ، صاخب القراءة صخبا وشديدا ، وكأنما حُذِّرَ مِنْ صَمَمِ المستمعين ! ولكن أَشْهَدُ لقد كانت فصاحة قراءته بالعربية إلا صَخَبَها ، فوق فصاحة تَحَدُّثِ الدكتور هدايت نور وحيد ، بها ، ولكن أين تلك من هذه !
ثم جاءني الكلام وقد حضرت صلاة الجمعة ، فخيرني الدكتور أحمد مرادي ، أنا والمستمعين بين الجلسة وبين الصلاة ، على أن يكون الأداء سريعا إذا اخترنا الجلسة ؛ فآثرنا الصلاة ، لنؤوب في الواحدة والنصف ؛ فنُمَكَّنَ من الكلام كيف شئنا !
أوثر في جمعة السفر أن أصليها ظهرا وقصرا ؛ فذهبت إلى غرفتي ، فإذا هدية مجانية عليها ورقة بـ(FREE ) : شَرابُ الفانتا ، وتفاحةُ الحمراء ، وشيكولاتة البسكويت ، وأصابع الشّيتُس !
أَيَّةُ سَحابَةٍ زاجِلَة ، في مَفازَةٍ قاحِلَة !
صليت الظهر والعصر ، ثم أكملت بالهدية إفطاري الغريب ، ثم تناومت قليلا ضابطا منبه محمولي على نصف ساعة لا يُنْتَظَرُ فيه نوم ؛ فنمت حقا ؛ فكانت هذه النومة ، هدية ربانية ، أهدى سبيلا ، فقد صحا من قبلُ يوماي وليلتاي ، وكنت مقبلا بعد دقائق على جلستي ، فكان النوم من أوائل التوفيق !
توضأت على عادتي كلما خرجت من بيتي ، ثم حثثت خطاي إلى مكان جلستي ، فصادفت الأستاذ يُسرينج سنوسي باسو ، الذي صحبته صباحا ، قد فتح حاسوبه المحمول :
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام .
- كيف حالك ؟
- الحمد لله !
- جلستك هذه القادمة ؟
- لا ، التي بعدها .
- وماذا تعمل ؟
- أنا أُدَرِّسُ بالجامعة استخدام الحاسوب في تعليم اللغات ولا سيما اللغة العربية ، وأقدم بحثي في هذا الإطار .
- هلا أطلعتني على طرف منه !
- هكذا ... ؛ أصطنع الآن برنامجا يأخذ بيد المتلقي إلى فهم فروق ما بين متشابهات ، تتفاوت سهولة وصعوبة ، من خلال مواقف حاضرة كموقف افتتاح هذا المؤتمر مثلا ؛ فهنا صورة يسأل البرنامجُ المتلقي عن شيء فيها ، ثم يُقَوِّمُ له إجابته ؟
- هذا عمل مهم ، نتمنى أن نضيفه إلى مقررات كليتنا !
- ولكنني لا أجد العربي الذي أنهل منه حقائق العروبة ومجازاتها !
- هذه بطاقتي ، راسلني ألكترونيا ، أكن في خدمتك .
- عذرا ؛ ليست معي بطاقاتي ، ولكنني سأكتب لك بريدي على ورقة الاتحاد .
- خطك جميل بالإنجليزية وبالعربية !
- لا ، بل خطي العربي قبيح ، أتمنى أن أحسنه هو ومهاراتي العربية كلها ؛ فالعروبة مهمة لنا كثيرا جدا .
- أكمل لي بيانات عملك .
قطع علينا الكلام حضور الدكتور أحمد مرادي مدير جلستنا ، فانتقلتُ إلى المنصة أنا والثلاثة الباقون من جلستنا الثُّمانيَّة التي لم يتسع لها وقت ما قبل صلاة الجمعة ، فانتهت عندي .
قدمني الأستاذ مرادي ، فسَلَّمْتُ ، وبَسْمَلْتُ ، وحَمْدَلْتُ ، وسَبْحَلْتُ ، وأقبلت أَهْدِرُ بشعر عبد السلام بن رغبان ديك الجن ، وشعرٍ لي قديم ، وأختدع المستمعين بدعوتهم إلى نقد النصين المتواردين ؛ حتى أرى رأيي في تعابيرهم ورسائلهم ، ثم هَوَّنْتُ عليهم الأمر ، بأن هذا هو ما فعلته في بحثي ، بطلاب السنة الأخيرة من تخصص اللغة العربية بكلية التربية من جامعة السلطان قابوس ، ثم أطلعتهم على مُلَخَّص بحثي ، ثم تَنَقَّلْتُ بين لَوْحات خُلاصات فُصوله ، ثم بين لوحات نتائج خبرتي بالتعلم والتعليم ، ثم بين لوحات منهجي في سياسة طلاب العلم ، ثم بين لوحات تدرجي بالطلاب في مقامات فقه القراءة والكتابة ، التي وضعتها تطبيقًا لمنهج سياسة طلاب العلم – حتى نبهني مدير الجلسة على الوقت !
ذهبت أقعد في مكان الدكتور جمسوري محمد شمس الدين ، الشاب الماليزي ، الذي أراد أن ينتقل إلى أمام حاسوب الجلسة ، ليجهز مادته – فمال علي الدكتور أحمد مرادي :
- بحثك جيد !
- أُرْسِلُه إليك ، إن شاء الله !
وبعد قليل ملت عليه ببطاقتي وفيها بريد لي ألكتروني قديم ، أضفت إليها خلفها بريدي الألكتروني الحديث ؛ عسى أن نتراسل بما يجمع بيننا على منهل ثقافي واحد .
قُدِّمَ الدكتور عرسان الرافيني بالجامعة الهاشمية بالأردن ، فتكلم في " تدريس اللغة العربية : تحديث المنهج " ، كلاما من بابة التيسير ، غير مألوف ، ثم تكلم الدكتور مهدي بن مسعود الأستاذ الماليزي ، في " اكتساب اللغة الثانية : الماليزي نموذجا " ، كلاما طريفا لطيفا ، وكان رزينًا محنكا ظريفا ، ذكر في عوامل أخطاء الماليزي في اللغة العربية ، اختلاف ما بين خصائص لغته وخصائص اللغة العربية أحيانا ، من مثل عدم تثنية المعدود ، على اسمه مباشرة ؛ فيقول : اثنان كراسة مثلا ، لا كما يقول العربي : كراستان ، ثم تمازح :
- ربما يقول العربي الآن : اثنان كراسة !
يومئ إلى ما يشيع الآن ببلاد الخليج العربية ، فرد أحد الأساتذة السعوديين الشباب :
- لا ، يا دكتور ، أخذناها منكم !
ثم تكلم الدكتور جمسوري محمد شمس الدين ، في " صعوبات تعلم اللغة العربية لدى طلاب العلوم الإنسانية ( علم السياسة ) في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا " ، كلامًا طريفا لطيفا كذلك ، فملت على الدكتور مهدي بن مسعود وقد أعطيته كذلك بطاقتي :
- تِلْميذُك ؟
- بمنزلة تلميذي !
ولما تطاول وقت هذه الجلسة الثُّمانيَّة المنقسمة على قسمين : رباعي قبل الصلاة ، ورباعي بعدها - اعتذر الدكتور أحمد مرادي عن عدم تمكنه من إتاحة وقت للمناقشة ، لكيلا نجور على أوقات الجلسات الآتية ، ودعا إلى شراء كتاب المؤتمر بثمانمئة وخمسين ألف روبية ، مَنْ أراد أن يتأمل أبحاثه ، فأقبلت أفتش فيه عن بحثي ، وفَرِحْتُ لِفِقْدانه !
انفضت الجلسة إذن ، ولم أشتغل بحضور غيرها ؛ فقد كنت مكروبا بسفر الغد ، ولمّا أُجَهِّزْ هدايا أسرتي !
وصلت إلى غرفتي ، فنضوت عني ثياب المؤتمر ، وتخيرت للسوق ثيابا ، ثم أقبلت أحث الخطا ؛ فإذا قطر السماء الأندونيسية يتساقط خفيفا مليئا عريضا ، يمس الأرض فيتفرطح وكأن القطرةَ حُبْلى قَطَراتٍ وَضَعَتْها حولي ، ثم ثقيلا ، ثم شديدا ، ولم أنتظر اشتداده ؛ فقد كنت بلغت جامع المورو صلاح بتلكوم ، فدخلت ولم أُصَلِّ فيه من قبل ، فصَلَّيْتُ تَحيَّةً ، ثم أَذَّنَ للعصر مؤذن لا أراه ، فخَمَّنْتُ أنه مُسَجَّل ، ثم خف القطر ؛ حتى سكت ؛ فذهبت عن الجامع ؛ فقد كنت صليت العصر مع الظهر جمعا وقصرا .
تَناسَيْتُ صحبة منذر ، وتَذاكَرْتُ نصيحة الدكتور عبد الرشيد :
- إذا خرجت من تلكوم ، فخذ يسارا ؛ حتى تصادف المتجر الكبير .
خرجت من المُجَمَّع ، وأخذت يسارا أخبط خبط عشواء ، أتفقد المظاهر الغريبة ، فلم أعثر على أي متجر كبير ؛ حتى انتبهت إلى محل لوازم رياضية ، أحسن حالا مما حوله ، فدخلت ، فحياني العمال بملامح وجوههم ، وحييتهم ، ثم فتشت لأولادي عن قطع ملابس وسطى وسفلى ، وعن ألعاب ، ثم حاولت أن أخرج بتخفيض ، فلم أفلح مع العمال الحاضرين ، ولا مع العاملة العارفة شيئا من الإنجليزية لا العربية ، التي أحضروها لي ، إلا فيما كتب عليه التخفيض من قبل ، فأخذت ما جمعته ، وذهبت من بعد أن سألتها عن مكان المتجر الكبير ؛ فنبهتني على ضرورة الركوب إليه .
ذهبت أماما ، فلم أجد إلا المحال الأندونيسية الخاصة الغريبة ، من مثل المتاجر والمطاعم والمشاغل والنوادي ، ومن النوادي نادي الشبكة العنكبوتية ، الذي يخلع رواده أحذيتهم من قبل أن يدخلوه ، ويقعدون على أرض مفروشة ، أمامهم حواسيب على مناضد عالية !
وقفت زاهدا في الأمام ، راغبا في سيارة تقطع لي مسافة ما مشيت ، فلما وقفت سألت سائقها عن المتجر الكبير ، فلم يعرفه ، ورطن لي بالأندونيسية ، فقطعت الحوار بشكره وتركه يذهب بنظرات بعض ركابه إلى الكائن الغريب فيَّ ، ثم أبت ماشيا في الشارع الضيق المزدحمة فيه سيارات الجهتين من دون أن يجور بعضها على بعض ؛ حتى وصلت إلى تلكوم ، ثم تجاوزته يمينا ، أمرُّ على مثل تلك المحال الأندونيسية الخاصة الغريبة ، حتى وصلت إلى الشارع الكبير ، فأخذت يسارا على ظن أنه اليسار المقصود أصلا بنصيحة الدكتور عبد الرشيد ، مكروبا بانعكاس طريقة السير عندهم ، حتى وصلت إلى جامعة باندونج التربوية التي زرناها من قبل ، وغَيَّرْنا مِنْ بنكها دولاراتنا .
وقفت عندئذ خائفا ، راغبا في سيارة تقطع مسافة ما مشيت ، فلما وَقَفَتْ سألت سائقها :
- تلكوم ؟
فأشار لي بالموافقة ، فركبت عن يساره ، لأنه أوسع ما في السيارة المصنوعة على أجسامهم ، مثلما صنعت ملابس معرض المؤتمر ، التي أَنْذَرَني عَدَمَ ملاءمتها مُنْذِر !
اجترأت على تفقد الناس من شباك السيارة ، فانتبهت أكثر ما انتبهت إلى طلاب المدارس الثانوية وطالباتها بأجسامهم النحيلة الصغيرة ، وأزيائهم المتبرجة ؛ حتى وقف السائق تحت لائحة التنبيه إلى تلكوم يمينًا ، وأشار إلي أَنْ سيسير أماما ، وطريقي أنا اليمين ، فنزلت مشيرا إليه أَنْ كَمِ الأجرة ، فقال ما لم أفهم ، فلما رأى حيرتي ، أخرج لي ورقة بألف روبية تساوي لدينا خمسين قرشا مصريا أو أقل ، فأعطيته مثلها !
لم أستحسن أن أؤوب بما معي من مئات آلاف الروبيات ، من قبل أن أنفقها فيما خرجت له ، فذهبت أماما ، ومررت كذلك على غرائب المحال الأندونيسية ، وصادفت في جزيرة الطريق شابين يَسْأَلانِ بالغناء ، على كوب نُحاس فيه بعضُ المال : واحدٌ يضرب على قيثارة ، وآخرُ يغني غناء غَرْبيًّا ، فلم أَسْتَحِلَّ أن أتصدق عليهما !
تقدمت قليلا ، فعثرت على بائع حلوى ، يحمل على ظهره عصا ، يتعلق بها من طرفيها وعاءان بحبال مناسبة ، يُذَكِّرُ بائع البوظة قديما بقريتنا ، كان أحدهما مفتوحا ، والآخر مغلقا ؛ حتى يفرغ الأول - يُخْرِجُ من الأول إلى طبق نحاسي مجهز ، كُراتٍ بيضاءَ وحمراءَ ، تعوم في شراب ، ثم يقطر عليه من زجاجة ، ما يشبه العسل ، ومن أخرى ، ما يشبه العصير !
ثم تقدمت قليلا ، فعثرت على بائع خبر الجمبري ، يَصُفُّه مُنَظَّمًا على ظهر مخزن عربته ، وكأنه خبيز اليوم ، لم يفرغ من بيعه بعد !
ثم تقدمت قليلا ، فعثرت يسارا على مبان كبار أحسن حالا مما رأيت من قبل ، فقطعت الطريق ، ثم تقدمت لأدخلها الأول فالأول ؛ فإذا متجر بقالة وأشياء أخرى ، فدخلته ، وجلت فيه أرى كيف ينظم مثله الأندونيسيون ، فرأيتهم مثلا يتيحون لباعة منفصلين عنهم ، أن يبيعوا أشياءهم أمام مدخله ، ثم رأيتهم يقطعون أجزاء الدجاج ، ويرتبون بعضها بجوار بعض على منضدة واحدة ، يكاد لا يفصل بينها فاصل ، ثم صعدت إلى فوقه ، فرأيت امرأة في ثياب الحرس الرسمية اللطيفة ، وأُمًّا ورَضيعَتَها مُحَجَّبَتَيْنِ بمثل ملابس معرض المؤتمر !
تفقدت الدور الثاني ؛ حتى عثرت على جانب الأحذية المنزلية ، وسيارات الألعاب الصغيرة ، والأدوات الكتابية ، فاشتريت منها .
ثم خرجت أتنقل ؛ فإذا متجر ملابس أطفال ، فدخلته ، فنبهتني الحارسة على شيء ، فلم أنتبه ، ثم نبهتني مشيرة إلى أكياس مشترياتي أن أضعها في الأمانات ، فانتبهت ، ثم ذهبت أجول فيه ، أميز الملابس المطلقة من شرط الأحجام والتقاليد الأندونيسية ؛ حتى عثرت على قطع قليلة ، بين غرائب كثيرة !
ثم خرجت أنتقل ؛ فإذا مطعم بيتزاهت غربي ، فرضيت بالإياب إلى تلكوم ، مارا بغرائب أندونيسية أخرى ، من مثل مشاوي اللحوم والأسماك معا المفتوحة على المارة ، ومطاعم الدجاج المسلوخ المسلوق المُبَهَّر المعلق من طرف رأسه مصفوفا ، وكأنه حصاد كتيبة إعدام إرهابية - ومن مثل السائل المُعَوَّق المتربع على الأرض برجل عليلة فوق رجل صحيحة ، على الكوب النحاسي نفسه ، فإذا وُضِعَ له فيه شيء خطفه سريعا خطفا ، ليظل فارغا يدعو المارين ، فوضعت له ثلاث قطع ، كل قطعة - أظن - بمئة روبية ، ثم ندمت أَنْ لم أُعْطِه غيرها ، وأحتفظ بها ، لأضمها إلى مجموعة عملاتي التي أجمعها منذ ثلاثين سنة إلا قليلا !
وصلت تلكوم مع أذان المغرب ، فدخلت الجامع ، ووضعت الأكياس عن أقصى يمين الصف الأول ، ثم انسلكت في الجماعة ، ثم لما فرغنا ، تَعَجَّلْتُ صلاة العشاء وحدي جمعا وقصرا ، ثم ندمت أن وجدت جماعة المصلين تجتمع عليها ، فلما فرغت أنا ، استندت إلى الجدار ، وجعلت أتأمل المصلين ، فوجدت الجماعة التي خسرتها مستمرة بإمام أندونيسي جميل الصوت ، وخلفها بعد ثلاثة صفوف جماعة أخرى !
مهما يكن اختلاف أحوال المصلين في بلادنا العربية ، لا تتعدد الجماعات ، إلا سهوا أو خطأ ، إلا أن تترك الجماعةُ الحديثةُ المكانَ ، للجماعة القديمة ، إلى مكان آخر من الجامع ، لا تُرى فيه معها !
وكلما رأيت مسالك إخواننا المسلمين الأندونيسيين تأكدت لدي مقالة أستاذنا محمود محمد شاكر - رحمه الله ! - " لا تَكْتَمِلُ مَعْرِفَةُ الْإِسْلامِ إِلّا بِمَعْرِفَةِ الْعَرَبيَّةِ " ، أو كما قال ، رحمه الله ! وأحسست أنها من فهم قول الحق - سبحانه ، وتعالى ! - : " لَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِروا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرونَ " ! وكذلك كانت كلمة الدكتور هدايت نور وحيد ، السابقة ، نفع الله به !
ذهبت أخرج من الجامع ، فوجدت الطالبات يصلين بركنهن على يمين الخارج ، في جلابيب صلاتهن البيضاء الربانية ، وربما دخلت المتبرجة هي وزميلها ، يتكلمان ، فتميل يسارا ، ويذهب أماما !
فلما خرجت وجدت بعض الأساتذة الأندونيسيين وأستاذا كويتيا بمعهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ، من جامعة الكويت ( الدكتور إبراهيم محمد ) ، فجاذبتهم الكلام فيما اضطرني إلى الانسلال من جلسات المؤتمر إلى السوق وحدي ، ثم فيما عجبت له من اضطراب نظام المؤتمر : برنامجه الذي خلا أمسِ مني ، وكتابه الذي خلا اليومَ من بحثي :
- لكنهم وعدوا أن يخرجوا بقية الأبحاث في كتاب ملحق .
- أسافر عنهم غدا ، فليبحثوا عمن يشتريه !
ذهبت عنهم إلى غرفتي ، ثم تخففت مما حملت ، ثم نزلت إلى المطعم ؛ فقد استهلكني المشي . فوجدت الدكتور عارف كرخي أبو خضيري والدكتور قرني عبد الحليم ، فدعوتهما أن نأكل معا ، فأصبنا من خبز الجمبري والأرز واللحم والسلطة ومياه العلب ذوات المِشَفّات ، ثم قعدنا عن جلسات المؤتمر زهدا فيها بعدما رأينا من اضطراب نظامها !
انضم إلينا بعد قليل الدكتور حسن عبد المقصود ، ثم الدكتور كمال عبد العزيز ، ثم الدكتور عرسان الرافيني ، ثم خضنا في كل علم وفن ، ثقيل وخفيف ؛ حتى هجم علينا من الأندونيسيين وشباب الأساتذة العرب ، بعقب المؤتمر ، مَنْ صَخِبَ في المطعم بما سموه حفل سمر ، بين عزف وغناء وإنشاد ، وبرع الخليجيون مرة أخرى في الإنشاد ، واستولوا على إقبال الأندونيسيين – ولكنني خرجت من هذا اللقاء ، بمعرفة الدكتور عارف .
رجل عالم فنان صعيدي ، لا تدل ملامحه الصعيدية القاسية ، على خصاله الفنية الرقيقة ، وحواره العلمي اللطيف !
ثم جاءنا أندي هادي ومحمد فؤاد ، وجمعتنا جميعا الصور التذكارية :
- أندي ، هذا محمد فؤاد ، أرجو ألا يتأخر عن السابعة من صباح غد !
- تأمل ؛ قد كتبت تفاصيل مواعيدكم أنتم والأساتذة جميعا !
- أكرمك الله !
- وهذان نوح وعارف ، طالبان بالفرقة الثالثة من تخصص اللغة العربية ، سيكونان عندك في السابعة .
- ومحمد فؤاد ؟
- لديه عمل يمنعه !
ثم ذهب بهما ، وطال مجلسنا ؛ حتى شهد الجالسون أنه أفضل أعمال هذا المؤتمر ! ولكنه انتهى ، وودع كل منا الآخر ، وافترقنا ، وفي طريقي من المطعم وجدت مجلسا آخر للدكتور محمد حُوَّر أستاذ النقد بجامعة اليرموك ، والدكتور زياد الزعبي ، والدكتور عرسان الفيلاني ، والدكتور فائز القرعان ، وربما كان معهم الدكتور عباس عبد الحليم . تمنيت أن أجالسهم حتى مطلع الفجر ؛ فَلا يزال بي إلى إخواني العرب والمسلمين جميعا ، ولا سيما العلماء والفنانون – شوق وحنين لا يفتران ، ولكنني خشيت أن أَثْقُلَ عليهم !
صعدت آسفا إلى غرفتي ، وجهزت حقيبتي ، وضبطت محمولي ، وتناومت حتى صلاة الفجر ، ثم تناومت حتى السادسة والربع ؛ فإذا الباب يطرق ، فأفتح ؛ فإذا نوح وعارف - خافا ألا أكون تجهزت - فنخرج معا ، فأمر على المطعم ، محتاجا ، زاهدا في الإفطار الأندونيسي ، إلى حيث سيارة زميل لهما ثالث ، من طلاب اللغة العربية كذلك .
انطلقنا ننهب الطريق الذي ستره عني الليل من تلكوم إلى متجر باندونج الكبير ، والدنيا كلها باكرة يقظة نشطة ، فكنت أصور كل طريفة أندونيسية لم أصورها من قبل ، ولا رأيتها ، من مثل غلبة الدراجات البخارية على وسائل الانتقال في الشوارع ، ومن مثل الدراجات الهوائية ذات الأرائك الأمامية المستعرضة ، ومن مثل أسواق باندونج الداخلية الممتلئة خضراوات وفواكه ومستلزمات أندونيسية ، وصورت مناظر بعض الشوارع الطويلة المحفوفة بالأشجار الملتقية الأعالي كمثل ما كانت عليه شوارع القاهرة الفاخرة " ثم زالت وتلك عقبى التعدي " :
- أليس اليوم السبت إجازة في باندونج ؟
- بلى .
- فلم كل هذه الجموع ؟
- يذهبون إلى التسوق .
- وهل نمر بمتاجر كبيرة ؟
- متجر باندونج الكبير نفسه ، مُتَسَوَّقٌ كبير جدا ، يذهب الناس إليه !
- وهل أستطيع أن أشتري منه ؟
- تفتح محاله في التاسعة !
- أين ترى ذلك المبنى الذي التقى فيه سوكارنو ونهرو وجمال عبد الناصر سنة 1955م ، لتأسيس جبهة عدم الانحياز ؟
- لقد مررت معنا عليه منذ قليل ، وتركناه الآن خلفنا !
- أظن أنه مزار سياحي ، ليتنا وجدنا وقتا لزيارته ، ولسوف يزوره المشاركون بالمؤتمر اليوم ، ولم يمنعني غير سفري !
- نحن نسميه جدون ساتي !
- وما معناه بالعربية ؟
- لا مقابل له في العربية !
- بل معناه اللحم المشوي على الـ...
- على المشكاك ، نسمي هذه الحديدة المشكاك ، فهو لحم المشاكيك !
- نعم لحم المشاكيك !
وصلنا قبيل السابعة والنصف ، فوجدنا الحافلة توشك أن تتحرك – ولا ريب في أنها حافلة السابعة ، تَأَخَّرَتْ ؛ فأدركناها ؛ وقد كنا عَجِلْنا لحافلة الثامنة - فقطعوا لي تذكرتي على حساب لجنة المؤتمر كما اتفقنا ، ونبهوني على بوابة السفر إلى سنغافورة ( D2 ) ، بأندونيسية تمنيت أن أحفظها ، وأراد السائق التحرك ، فودعتهم ، وقفزت إليه .
جهزت نفسي لرحلة طويلة أطول مما كانت ليلا ، أي ذات أربع ساعات أو أكثر ؛ فاشتغلت في طريق الحافلة بتأمل طبيعة البلد ، وتصوير أهم مناظرها ، فلم أجد أهم من مزارعها المستمرة على الجبال والسهول ؛ فإذا كانت الجبال كانت أشجار الشاي المتشابكة ، وإذا كانت السهول كانت حقول الأرز المنبسطة ، وربما اصطفت على الحواف ، أو استقلت بأنفسها أشجار السَّرْو المُتَكَبِّرة - ولا أهم من قراها المختبئة في أحضان مزارعها ، ببيوتها المثلثة الأسقف المزدوجة الطوابق المختلفة باختلاف أحوال أصحابها سعة وضيقا - ولا أهم من بحيراتها المسكونة بمزارع السمك ذوات الجدران من فِلَقِ أعواد الغاب ( القصب الأجوف ) . وكلما اندهشت بمنظر من تلك ، جاءني أشد منه إدهاشا ؛ حتى خرجنا من الريف إلى الحضر ، فإذا أبنية شاهقة ، وطرق نظيفة منظمة ؛ حتى بلغنا مطار جاكرتا .
مررنا على رصيف البوابات الطويل اللطيف ، قد ازدحمت عليه جماعات الناس جماعة جماعة ، كل جماعة على بوابة سفرها ؛ فكنت أتأمل الأسر الأندونيسية كيف تبدو ، مُتَحَفِّظَةَ المظهر ، أو مُتَحَرِّرَتَه ، أو مختلطة المظهر بتحفظ الكبار وتحرر الصغار ، وكلهن أسر مسلمة ؛ حتى جاءت بوابتي ؛ فنبهني السائق ومساعده ، ونزلت ، وتحيرت قليلا ، ثم دخلت مستدلا بـ"D2 " .
وصلت بُعَيْدَ العاشرة ، وموعدي الثانية عشرة ، فلم أشأ أن أحرج نفسي بالدخول مع الداخلين إلى الباحات الداخلية ، فجلت ذهابا وإيابا ، أتفقد المكان الذي لم أره في وصولي ، وربما لا أراه بعد اليوم ، وأتفقد الناس ، وما الأماكن إلا الناس !
هذه طائفة من الفتيات والسيدات ، تلبس الملابس البيضاء الإسلامية ، كأنهن الملائكة ، فقدرت أنهن في سبيل الاعتمار ، وهذه سيدة متبرجة تَشْتَفُّ المياه بالمِشَفَّةِ ، حتى إذا ما انتهت قامت إلى السلة فألقت زجاجتها ، وهذا مطعم :
- ( ... أريد أن أفطر ... ) !
أدخل ، وآخذ علبة بيبسي ، وكيس بسكويت ، وأدفع ثمانية عشر ألف روبية ! وهذا بنك :
- ( ... معي قرابة مئة وسبعين ألف روبية ونيفٍ ، أريد أن أغيرها إلى دولارات ... ) !
- معك ثلاثة آلاف روبية أخرى ؟
- لا .
فيرد علي البَنْكيُّ السبعين ألفًا ونيفا ، ولا يأخذ غير مئة الألف ، ليعطيني عشر دولارات ، وخمسين روبية تقريبا !
وهذه فتاة محجبة تقف على محل هدايا ، فأقبل عليها ، أتفقد ما عندها ، وأساومها ، ناسيا حدود ما معي ، فتسألني بالإنجليزية :
- لمن تريد ؟
- لابنتي .
- كم عمرها ؟
- خمس عشرة .
- تأمل هذا العقد بمئتي ألف ، وهذا السوار بمئة وخمسين ، وهذا بمئة ، وذاك ، وذلك ... !
- عذرا عذرا !
أذهب عنها أجول ؛ حتى تكتمل الاثنتا عشرة ، فأدخل أفتش عن الطيران السنغافوري ، فأنتبه إلى شاب صغير يفتش قبلي ، فأتتبعه ، فيهجم على مكتب فارغ ، ويعرض أوراقه في لمح البصر ، ويمضي ، فإذا المكتب لرجال الأعمال ، فأتركه إلى مكتب فارغ بجواره ، فإذا هو لهم كذلك ، وأُنَبَّه على طابور الدهماء ، فأنضم إليهم !
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام . معك حقائب للوزن ؟
- لا .
- هذه بطاقة " جاكرتا سنغافورة " ، وهذه بطاقة " سنغافورة القاهرة " .
- جميل .
- أريد منك مئة ألف روبية .
- لماذا ؟
فترطن لي بما لا أفهم ، فأشير لها إلى أن ليس معي ما يكملها ، فهل أذهب لتغيير الدولارات إلى روبيات ، فتوافقني ، وتمسك عندها بطاقتي الطائرتين ، فأذهب ، فآخذ بعشر الدولارات ، أقل مما بذلت فيها الروبيات ، ثم أعود لأكمل للمضيفة مئة الألف ، ثم أهم بالمضي ، فترى حقيبة اليد :
- ينبغي لك أن تترك هذه الحقيبة !
- ولم لا أحملها ؛ ألا ترين كم هي خفيفة !
- ينبغي ألا تزيد على عشرة كيلوات .
- أظنها كذلك .
نزنها معا ، فتكون أربعة عشر كيلو ، فأتركها لها مستريحا منها ، ثم أسألها عن جهة انتظار الطائرة ، لأمضي إليها ، وأمر في الطريق بسوق مطار جاكرتا الحرة ، لأجد محال هدايا خشبية وشبه خشبية ، لم أر مثلها من قبل ، فأدخل أبهاها ، أفتش عن هدايا بستة وستين ألف روبية وخمسمئة ، فأعثر على عقد خشبي بخمسة وعشرين ألفا ، وسوار خشبي ملائم للعقد بخمسة عشر ألفا ، وسوار خشبي منفرد بخمسة عشر ألفا ، وسوار بلاستيكي منفرد بعشرة آلاف ؛ فيتم الحساب خمسة وستين ألف روبية ، لتبقى ورقة بألف وقطعة بخمسمئة ، فأعطي الورقة عاملا يتكلم العربية ، نبهني على الصلاة ، ودلني على المصلى – فجمعت العصر إلى الظهر قصرا - وأستبقي القطعة لمجمع عملاتي !
جميل مُنْتَظَرُ طائرة " جاكرتا سنغافورة " ، من حوله الجدران الزجاجية المطلعة على المطار من أمام ، المحفوفة بالخضرة من يمين وشمال ، المشغولة بالمضيفات ذوات الأزياء الخاصة !
دخلنا إلى الطائرة ، فكان مكاني بين غَريبَيْنِ ، سلمت فلم يردا ، وبقيا غَريبَيْنِ ، فقعدت ، وانعكس ما سلف بطائرة " سنغافورة جاكرتا " ، ولكنني الآن في رائعة النهار ، أرى كل شيء واضحا جدا من بدء لمختتم ، أتشوف إلى سنغافورة لأتأمل خصائصها من فوق لتحت ، ومن خارج لداخل ؛ حتى ظهرت المراعي الخضراء الطويلة العريضة المقسمة تقسيما ملتويا دقيقا ، المحفوفة بالبحيرات ، المشقوقة بالبحيرات ، المختلطة بالبحيرات ، المشغولة البحيرات بمزارع السمك ، والسفن ، والحيتان أو الدلافين ، ثم ظهر سيدي المطار ، في حاشيته من أشجار السَّرْو المُتَكِّبرة ، بمسارات طائراته المُخَيَّرة بين الطرق المُسَفْلَتة ، والجزائر المخضرة ، ثم حطت الطائرة ، ودخلنا إلى جناح الوصول ، الطاغي الجمال ، الباغي المعارض .
الوقت هذه المرة قصير جدا بين الوصول والرحيل ، فأسرعت أفتش عن كاميرا ألكترونية ، هدية زوجتي ، أعرف أنها تسرها ، فعثرت عليها بمئتين وثلاثة وعشرين دولارا وثلاثين سنتا ، فأقبلت أسأل عن بنك المكان ، فدُلِلْتُ عليه ، فسألت البَنْكيَّة أن تعطيني مبلغ